فصل: تفسير الآية رقم (91):

صباحاً 4 :14
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
23
الثلاثاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (91):

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة. وهذه الآية مضمن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} لان المعنى فيها: افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل: إنها نزلت في بيعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام.
وقيل: نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس. روى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لا جبت».
وقال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن على في مال له، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة، فقال له حسين بن على: احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف والله لئن دعانا لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك. وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: «لا حلف في الإسلام». والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم واخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}. وفى الصحيح من قوله: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تأخذ على يديه- في رواية: تمنعه من الظلم- فإن ذلك نصره». وقد تقدم قوله عليه السلام: «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده».
الثانية: قوله تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها} يقول بعد تشديدها وتغليظها، يقال: توكيد وتأكيد، ووكد وأكد، وهما لغتان.
الثالثة: قوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} يعني شهيدا. ويقال: حافظا، ويقال: ضامنا. وإنما قال: {بَعْدَ تَوْكِيدِها} فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين.
وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك التوكيد هو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا، يردد فيه الايمان ثلاثا أو أكثر من ذلك، كقوله: والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا. قال: فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين.
وقال يحيى بن سعيد: هي العهود، والعهد يمين، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان». وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة، وحل ما انعقدت عليه اليمين.
وقال ابن عمر: التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه. وقد تقدم في المائدة.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}
قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً} النقض والنكث واحد، والاسم النكث والنقض، والجمع الأنكاث فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله. ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه، قال الفراء، وحكاه عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة، وقال مجاهد وقتادة: وذلك ضرب مثل، لا على امرأة معينة. وأَنْكاثاً نصب على الحال. والدخل: الدغل والخديعة والغش. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل. {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ} قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة قوية فداخلتها غدرت الأولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى- قاله مجاهد- فقال الله تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين. والمقصود النهى عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم.
وقال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عززتموهم بالايمان. {أَرْبى} أي أكثر، من ربى الشيء يربو إذا كثر. والضمير في {بِهِ} يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها، وهو معنى قوله: {إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من البعث وغيره.

.تفسير الآية رقم (93):

{وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} أي على ملة واحدة. {وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ} بخذلانه إياهم، عدلا منه فيهم. {وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} بتوفيقه إياهم، فضلا منه عليهم، ولا يسأل عما يفعل بل تسألون أنتم. والآية ترد على أهل القدر كما تقدم. واللام في {وَلَيُبَيِّنَنَّ ولَتُسْئَلُنَّ} مع النون المشددة يدلان على قسم مضمر، أي والله ليبينن لكم ولتسئلن.

.تفسير الآية رقم (94):

{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)}
قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} كرر ذلك تأكيدا. {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها} مبالغة في النهى عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس، أي لا تعقدوا الايمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزل قدم بعد ثبوتها، أي عن الايمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه، لان القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر، ومن هذا المعنى قول كثير:
فلما توافينا ثبت وزلت

والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة: زلت قدمه، كقول الشاعر:
سيمنع منك السبق إن كنت سابقا ** وتقتل إن زلت بك القدمان

ويقال لمن أخطأ في شي: زل فيه ثم توعد تعالى بعد، بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الايمان، ولهذا قال: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي بصدكم. وذوق السوء في الدنيا هو ما يحل بهم من المكروه.

.تفسير الآيات (95- 96):

{وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)}
قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا} نهى عن الرشا واخذ الأموال على نقض العهد، أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو على التحقيق قليل، وهو المراد بقوله: {ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ} فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفى بالعهد وثبت على العقد. ولقد أحسن من قال:
المال ينفد حله وحرامه ** يوما وتبقى في غد آثامه

ليس التقي بمتق لإلهه ** حتى يطيب شرابه وطعامه

آخر:
هب الدنيا تساق إليك عفوا ** أليس مصير ذاك إلى انتقال

وما دنياك إلا مثل في ** أظلك ثم آذن بالزوال

قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} أي على الإسلام والطاعات وعن المعاصي. أي من الطاعات، وجعلها أحسن لان ما عداها من الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله. وقرأ عاصم وابن كثير {وَلَنَجْزِيَنَّ} بالنون على التعظيم. الباقون بالياء.
وقيل: إن هذه الآية {وَلا تَشْتَرُوا} أي هنا نزلت في امرئ القيس بم عابس الكندي وخصمه ابن أسوع، اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه، والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (97):

{مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)}
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} شرط وجوابه.
وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال: الأول- أنه الرزق الحلال، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك.
الثاني- القناعة، قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الثالث- توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله، قال معناه الضحاك.
وقال أيضا: من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها.
وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، وقاله الحسن، وقال: لا تطيب الحياة لاحد إلا في الجنة.
وقيل: هي السعادة، روى عن ابن عباس أيضا.
وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة.
وقال سهل بن عبد الله التستري: هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق.
وقال جعفر الصادق: هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله.
وقيل: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق.
وقيل: الرضا بالقضاء. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} أي في الآخرة. {بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}. وقال: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ} ثم قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} لان {مَنْ} يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى. وقد تقدم.
وقال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وناس من أهل الإنجيل وناس من أهل الأوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فنزلت.

.تفسير الآية رقم (98):

{فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98)}
فيه مسألة واحدة- وهى أن هذه الآية متصلة بقوله: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله من أن يعرض لك الشيطان فيصدك عن تدبره والعمل بما فيه، وليس يريد استعذ بعد القراءة، بل هو كقولك إذا أكلت فقل بسم الله، أي إذا أردت أن تأكل. وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين افتتح الصلاة قال«اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه».
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة. قال الكيا الطبري: ونقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقا، احتجاجا بقوله تعالى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} ولا شك أن ظاهر ذلك يقتضي أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، كقوله تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً}. إلا أن غيره محتمل، مثل قوله تعالى: {وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} وليس المراد به أن يسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم. ومثله قول القائل: إذا قلت فاصدق، وإذا أحرمت فاغتسل، يعني قبل الإحرام. والمعنى في جميع ذلك: إذا أردت ذلك، فكذلك الاستعاذة. وقد تقدم هذا المعنى، وتقدم القول في الاستعاذة مستوفى.